حر الصحراء يشوي عشرات السودانيين الفارين من الحرب في بلادهم

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!

شكرا لمتابعتكم خبر عن حر الصحراء يشوي عشرات السودانيين الفارين من الحرب في بلادهم والان مع تفاصيل هذا الخبر

فقد الأمين أحمد، مدير «بنك النيل – فرع سوق ليبيا» بأم درمان، في لحظات، ثلاثة من أبنائه ماتوا أمام عينيه، تساقطوا واحداً تلو الآخر، لتعرضهم لـ«ضربة شمس»، في أثناء محاولة الأسرة عبور الحدود المصرية – السودانية عن طريق «التهريب»… الشباب الجامعيون الثلاثة كانوا ينوون إكمال دراستهم في مصر لتوقف جامعاتهم السودانية بسبب الحرب المستمرة.

يعيش الأمين، ويلقب بـ«الأخ» تحبباً، مع زوجته، ولم يتبق لهما من فلذات أكبادهما سوى صورهم وبعض الذكريات الجميلة… وطوال الوقت كان يردد: «الحمد لله، ربنا يتقبلهم ويجمعنا بهم في الجنة».

الأب المفجوع الأمين أحمد (الشرق الأوسط)

ويتسلل آلاف السودانيين الفارين من الحرب عبر الحدود المصرية، أملاً في الحصول على ملاذات آمنة، فمن لم يمت بأسلحة الطرفين، فقد يموت بالجوع وانعدام الأدوية والتطبيب وبالأمراض والأوبئة، فيضطرون للمغامرة ومواجهة خطر الصحراء، وربما جشع عصابات التهريب، أو قد يقعون في أيدي شرطة الحدود المصرية التي تعيدهم لبلادهم.

ويتطلب الدخول إلى مصر «تأشيرة دخول»، قد يستغرق الحصول عليها أكثر من ستة أشهر، أو في الحالة الأخرى الحصول على «تأشيرة استثنائية» تعرف بـ«الموافقة الأمنية»، وهي فوق قدرة معظم الراغبين في السفر، وتكلف أكثر من ألفي دولار للشخص الواحد.

وتستغل عصابات التهريب حاجة الناس للبحث عن أمان، وتفرض عليهم شروطاً قاسية، وتدخلهم إلى مصر متتبعة طرقاً صحراوية وعرة، غير مبالية بما قد يحدث لهؤلاء، فقد يسقط أحدهم من السيارة ولا أحد يتوقف لإنقاذه، وقد يضطرون للاختباء في الصحراء لساعات طويلة تجنباً لفرق حراسة الحدود، وحين وصولهم لمنطقة «الكسارات» يُتركون لمهربين آخرين، يستغلونهم مجدداً وقد يسرقون هواتفهم والأموال التي بحوذتهم، أو يفرضون عليهم رسوماً باهظة لإدخالهم إلى أسوان.

(الشرق الاوسط)

عن علاقة الأمين بأبنائه المتوفين يقول: «كانوا أصحابي وأصدقائي قبل أن يكونوا أبنائي، كانوا دنيتي التي فقدت، لكني الآن لا أملك إلا الاعتراف بأمر الله»، وموجهاً كلماته للذين يحاولون الفرار من الحرب من أبناء وطنه: «لا تسافروا في هذه الظروف، حتى لا تفقدوا أرواحكم، أو حيوات أعزائكم».

ويتابع والحزن يتقطر من عينيه دمعاً وتنهدات: «نصحت الراحلين بتأجيل السفر لما بعد عيد الأضحى، نقضي العيد في مدينة حلفا، لكنهم أصروا على السفر وأقنعوني»، ويتابع: «قبل أن أركب العربة نصف النقل كان قلبي يحدثني بأن ثمة شيئاً ما سيحدث، حاولت إثناءهم وفشلت، ثم توكلنا على الله وركبت معهم».

يصف الأمين رحلته بأنها «كانت قطعة من العذاب ومعاناة كبيرة»، ويقول: «لو كنت أعرفها بهذه القسوة، لما سافرنا مسافة كيلومتر واحد، لكنها إرادة الله». ويتابع: «كانت العربة التويوتا نصف النقل يطلقون عليها محلياً (بوكس) محملة بعدد كبير من المسافرين، وفي أثناء السفر تعطلت لساعتين في هجير الصحراء ورمالها الحارقة».

ويصف كيف مات أولاده: «كانت درجة الحرارة فوق الاحتمال، ورمال الصحراء سعير يصلي جلودنا، لكنا كنا مضطرين للانتظار، وهنا حدثت المأساة، بدأ أبنائي الثلاثة يتساقطون لم يحتملوا درجات الحرارة العالية، وأنا أراهم يموتون أمام عيني وعاجز عن إنقاذهم، فلا ظل يستظلون به، والريح كأنها آتية من جهنم».

ونادماً يقول الأمين: «لو أن سيارتنا وصلت منطقة الكسارات لما ماتوا، كنا سننقذهم»، والكسارات هي منطقة عند بوابة مدينة أسوان المصرية، تتوقف عندها سيارات المهربين. ويتابع: «أحمد (كان) يدرس علوم الكومبيوتر في سنته النهائية بجامعة الرباط، ومحمد (كان) يدرس الهندسة في سنته الثالثة، وأصغرهم مجدي ودرس التسويق في المستوى الأول بجامعة الرباط، هم ما كان متبقياً لي بعد أن فقدت ابنتي الوحيدة عام 2012».

نازحون من ولاية الجزيرة السودانية يصلون في مركبات مكتظة إلى مدخل مدينة القضارف بشرق البلاد في 10 يونيو 2024 وسط الصراع المستمر بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» شبه العسكرية (أ.ف.ب)

ويقول القنصل السوداني في أسوان عبد القادر عبد الله لـ«الشرق الأوسط»، إن الأمين أحمد واحد من بين عشرات الآباء الذين فقدوا أبناءهم في رحلة التهريب إلى مصر، وإنه تم دفن جثامين 57 سودانياً توفوا بضربات الشمس، أو العطش أو حوادث السير في الصحراء المصرية، ويتابع: «يتعرض المئات من السودانيين لأوضاع قاسية وهم في طريقهم إلى مصر، فالرحلة قاسية ومحفوفة بالمخاطر».

مشرحة أسوان

يتجمع أمام المشرحة العمومية في مدينة أسوان عشرات السودانيين، وهم يذرفون الدمع على أحباء فقدوهم، بعد أن كانوا يهربون بهم من الموت بالرصاص والقذائف والقنابل، الرجال تسيل دموعهم غزيرة، والنساء يلطمن الخدود وهنّ يلقينّ النظرة الأخيرة على ذويهن، بينما يتصايح الأطفال ويصرخون من هول الموقف.

ويحدث الطبيب خالد الجعلي «الشرق الأوسط» عن مأساة صديقه صلاح عوض، الذي توفي هو الآخر في أثناء رحلة الموت إلى القاهرة، ويقول: «أبلغ صديقي صلاح عوض – وهو شقيق فنان الحقيبة الراحل محمد أحمد عوض – أسرته المقيمة في القاهرة بأنه سيقضي عيد الأضحى معهم ليجتمع شمل الأسرة بعد غياب طويل»، ويتابع: «كان صلاح وهو طبيب أيضاً، يسعف بعض مرافقيه الذين تعرضوا لضربات الشمس، لكنه سرعان ما فقد الوعي، وفشلت كل الجهود لإنقاذه، فمات ووقع الخبر على أسرته صاعقاً»,

سودانيون نازحون من ولاية الجزيرة هرباً من القتال في 10 يونيو 2024 (أ.ف.ب)

وقال شاب من سكان جزيرة توتي في أسوان لـ«الشرق الأوسط»، إن 10 من أفراد عائلته توفوا دفعة واحدة، بينما لا يزال آخرون يتلقون العلاج في المستشفى، وتابع: «نزحنا من توتي إلى أسرتنا الممتدة في الخرطوم بحري، لكن الظروف ساءت فالمدينة محاصرة منذ اندلاع الحرب، ومقطوع عنها الكهرباء والمياه، وانعدمت فيها سبل الحياة، فقررنا اللجوء إلى مصر».

ويصف الشاب «رحلة الموت هرباً من الموت» بقوله: «من بحري إلى عطبرة، ونحن مجموعة من النساء والرجال والأطفال وكبار السن، في 4 عربات نصف نقل، كنا نخشى حوادث السير، ولم نكن نتوقع أننا سنموت بالعطش أو ضربات الشمس، لو كنا نعلم لما سافرنا في هذا الوقت من العام».

وفي حادث سير ناتج عن السرعة الجنونية التي يقود بها المهربون، لقيت أسرة من شمبات حتفها (أم وابنها) بينما نجت طفلة سلمتها الشرطة المصرية لجدتها المقيمة في القاهرة.

سودانيون يشربون من مياه استُخرجت من بئر جوفية في ولاية القضارف شرق السودان (أ.ف.ب)

وفي تفسيره لكثرة الموت بضربات الشمس أو العطش، قال مصدر بقنصلية السودان في أسوان لـ«الشرق الأوسط»، إن المتسللين عبر الحدود يخشون نقل المصابين إلى المستشفيات خوفاً من القبض عليهم بواسطة الشرطة، وإعادتهم للسودان مجدداً، فهم جميعهم متسللون عبر الحدود.

الخبير القانوني المعز حضرة طلب ممن أطلق عليهم «شرفاء القوات المسلحة» توفير الماء والغذاء للفارين من الحرب نحو مصر، وتكثيف البحث عن التائهين في الصحراء بواسطة المروحيات أو السيارات، وقال: «أغلب الحوادث تقع داخل الأراضي السودانية».

وتنطلق يومياً عشرات «البكاسي» المكتظة بالنساء والأطفال والشباب قاصدة مصر، لتجتاز صحراء تتجاوز حرارتها 50 درجة…حرارة تشوي الأجساد وتحيل الوجوه سوداء. ومع هذا فهي رحلة مكلفة جداً لا يستطيعها إلا القادرون، وتتراوح بين (150 – 200) ألف جنيه سوداني، نحو مائتي دولار للشخص الواحد.

ويتراص بين 15 و17 راكباً في صندوق السيارة، النساء والأطفال في المنتصف، ويحيط بهم الرجال الذين تتدلى أرجلهم خارج السيارة، ويتم تقييدهم بالحبال حتى لا يسقطوا في الطريق، فمن يسقط لا ينتظره أحد، ويقول الشهود: «أغلب الوفيات تحدث بسبب تعطل السيارات في لهيب الشمس، ما يعرضهم للموت بضربة الشمس أو العطش».

‫0 تعليق

اترك تعليقاً